سيف الدين أغوكاد -------------------------------------------- صاحب الموقع
•دعـآئےُ •|: : || الـعـمـل || : مصمم مواقع حر || البــــلد || : || مـسـآهـمـآتي || : 470 || نــقـاطي || : 15117 || نقط التميز || : 11 || تسجيلت ب || : 14/03/2012 || مـوقـــعــي || : Www.OuTaT.HooXs.CoM |•الاوسمة•| : |•احترام القوانين•| :
| موضوع: سلسلة القصص الواقعية في تحدي المستحيل .. القصة الأخيرة (3 والأخير) الإثنين أبريل 02, 2012 12:31 pm | |
| عرفنا في الفصل السابق كيف ان اللغة الفرنسية أصبحت سدا منيعا أمام أيوب ليواصل المسيرة، وكان عليه هدم هذا السد مهما كانت التكلفة، كانت اللغة الفرنسية في طريقها للإضمحلال من كل برامج التعليم، لذلك لم يحاول سابقا حتى مجرد المحاولة لفهمها، فالتعريب كان يسير حثيثا ليكنسها بعيدا، لذلك كان التراجع الفجئي في هذا المجال وفي الفلسفة تحديدا خطوة فاجأته وأسقطته في البداية.
سار أيوب في طريق جديد لتحطيم اللغة الفرنسية، طريق آمن به و صمم على قطعه، فاهتم اهتماما غريبا بهذه اللغة، كل كلمة وكل جملة جديدة يسمعها أو يقرأها يعيد كتابتها عشرات المرات، قال لي في جملة حديثه معي حول الموضوع أنه أعاد مرة كتابة صفحة كاملة أكثر من 500 مرة، وكأنه نوع من تعذيب النفس أكثر منه تعلما، كان كالإعصار، كل كلمة تعترضه تدخل المخ أحبت أم ابت، كان يراجع الفرنسية بمعدل 18 ساعة على 24 في اليوم، كان لا ينام الا يسيرا، كان يلتهم الفرنسية التهاما، أي كلمة جديدة كان يجب أن يعرف معناها و كتابتها وكل ما يرتبط بها، وتطور حذقه للغة الفرنسية بالتوازي مع تحسن مستواه في الفلسفة، وواصل هكذا حتى نهاية السنة الدراسية لينجح بامتياز كبير في سنته الثانية فلسفة مع المرتبة الأولى في اللغة الفرنسية، كان انقلابا حير زملاءه ومدرسيه على حد السواء، من النقيض الى النقيض، كان الإعجاب به بلغ حدا تجاوز الإعجاب بصبره اللا محدود في الدراسة الثانوية، أصبح أيوب مرجعا في اللغة الفرنسية، كان قاموسا متنقلا يحتاجه الجميع من الطلاب وحتى بعض الأساتذة، كان أيوب معروفا جدا و مشهورا جدا بأروقة الكلية لكونه النابغة المتحرك للفرنسية ولكونه أكبر الطلاب سنا أيضا، ولكلا السببين، كان محل احترام الجميع.
في السنة ثالثة فلسفة, حضر موقفا محرجا لأحد الاساتذة, وذلك عندما طرحت على الأستاذ جملة من الأسئلة من طلابه عجز عن الإجابة عنها فكان موقفا محرجا جدا له، لأن الإجابات كانت في صلب البرنامج الدراسي، فكان هذا الموقف مؤثرا في شخصية أيوب بعد أن تخيل نفسه في نفس وضعية استاذه أمام تلاميذه مستقبلا، كانت هذه الحادثة على بساطتها كافية ليحسم أيوب أمره في دخول التحدي الجديد، تحدي التثقيف الذاتي غير المحدود، وكان تحديا غريبا من شخص غريب، ودخل حلبة التحدي مقررا أن يكون رقم واحد على مستوى كلية العلوم الإنسانية ككل.
كانت الكلية مثل أي كلية تحتوي مكتبة كبيرة تضم آلاف الكتب والمراجع، استغل أيوب هذا الفضاء اللامتناهي من العلم والمعرفة التي تمتلا بها الرفوف، وقرر أن تكون هذه الرفوف هي تحديه الجديد في أن يكون المثقف أو المرجع رقم واحد على مستوى الكلية ككل، و بدأ رحلة المطالعة داخل المكتبة، حتى أصبح جزءا من هذه المكتبة وعنصرا مكونا لها كالجدران أو الطاولات أو الكراسي، كان وجود أيوب قاعدة تعود عليها الجميع ممن يدخل المكتبة، كل دقيقة فراغ لأيوب كانت تمر وهو يلتهم مرجعا جديدا، ومع الوقت أصبح لأيوب نوعا من الامتياز من طرف مشرفي المكتبة، مما سهل له طريقة استعارة الكتب فهنالك بعض المراجع لا تخرج من فضاء المكتبة لندرتها وأيوب تجاوز هذا الشكل من التعامل، لم تنتهي السنة الثالثة فلسفة الا و أيوب قد لف اغلب الرفوف واستوعب أكثر ما تحتوي، على الاقل في ميدان دراسته، و حكى لي كيف أن بعض الاساتذة كان عندما يريد إحالة طلبته لمرجع ما يستعين به فيعطيهم أيوب المرجع والفصل المطلوب وأين يوجد أصلا وفي أي رف بالمكتبة، ووصل الامر ان استعان به طلبة السنة النهائية في اعداد اطروحة التخرج، وحقق أيوب مع الوقت هدفه في ان يكون رقما صعبا داخل الحرم الجامعي باكمله وأصبح وعن جدارة موسوعة الفلسفة المتحركة التي يحتاجها الجميع طلابا وأساتذة، وانتهت السنة الدراسية بنجاح أيوب ضمن الأوائل المتميزين الذين حفروا علامات واضحة على مسيرة هذه السنة الدراسية.
وانهى أيوب سنته الأخيرة بنجاح ايضا وبتفوق مبهر ليدخل بعدها معترك الحياة العملية التي كانت شبه مغلقة أمامه، فبخروجه من الجامعة كانت هنالك معوقات كبرى وقفت أمامه قضت على الكثيرين، و لكنه عمل لتجاوزها بصبر غريب آخر لن تجده الا لدى القلة القليلة من القلائل.
تخرج أيوب ومعه الأستاذية في الفلسفة، أستاذية مثلها مثل عدمها، فالفلسفة لا تدرس الا في الثانوية العامة مما يجعل الطلب على أساتذة الفلسفة يكاد يكون منعدما، مثلها مثل اختصاص التربية الإسلامية التي دمرها زين العابدين بن علي في خطته الجهنمية للقضاء على التدين الاسلامي بالبلاد، مما يجعل من يتوجه للدراسات الاسلامية أغبى طالب بتونس، اصطف أيوب مع الآلاف من حملة الشهائد العليا في انتظار حظ يمكن أن ينهض، ثم غير مساره قليلا بأن أصبح فلاحا ومزارعا في ضيعة الأهل، وعندما أقول ضيعة بالجنوب التونسي فهي ليست هكتارات ولكنها قطع صغيرة لا تصل الى مساحة الهكتار الواحد مجتمعة، أخبرني أنه عند آذان الفجر يكون متواجدا بالضيعة ولا تصل الثامنة صباحا الا والعربة يقودها أخوه محملة بعلف حيواني من مزروعاته يوزعها على المشترين من قريته حتى لم يعد قادرا على تلبية كل الطلبات، تجربته الدراسية أعطته طاقة لا محدودة في التحدي والصبر، فعشرات المرات وكما قال لي يعد مساحة ويزرعها بالبطيخ مثلا ويكون فرحا وسعيدا وهو يشاهده ينمو ويطل براسه من باطن الأرض ليقدم خيراته وفي يوم حار مصحوبا بريح سموم يجد كل النباتات احترقت وماتت، لا يتأفف أو ينتكس ولكن يعيد التجربة من جديد، كم من مرة يقوم بتسييج الضيعة وياتي ريح قوي عاتي ليقلب السياج رأسا على عقب، فيبدأ من الغد في إعادة السياج دون كلمة واحدة تعبر عن الحزن أو الغيظ، التوقيت والساعة وكل ما له علاقة بالزمن رماه منذ وقت طويل من ذاكرته، المهم العمل والسير الى الأمام.
بعد مدة قامت الحكومة ببرمجة دورات تعليمية للكبار من أجل القضاء على الأمية، فانخرط فيها كأستاذ مدرس، واختار توقيت التدريس مما يساعده لأن يكون أستاذا وفلاحا في نفس الوقت، فلاحا في الصباح وأستاذا في المساء، برمج ساعتين يوميا للنساء من الرابعة الى السادسة، وللرجال من السادسة الى الثامنة ليلا، وفي الصباح ومن الفجر يكون في الضيعة، سارت الأمور رائعة فعلا، فالجراية جيدة ومدخول الفلاحة ممتاز.
بعد سنتين، انتهى برنامج تعليم الكبار، ولكن فتح بعدها برنامج لإعانة المتخرجين من أصحاب الشهائد العليا، حيث أعدت الدولة مئات الهكتارات الفلاحية لصالح العاطلين عن العمل، ويأخذ الشاب مقسما على أن لا يطالب بعمل من الدولة بعد ذلك، وقبل العشرات هذا الامر ولكن طالبوا بحقهم في التشغيل بعد ذلك ومن جملتهم أيوب ، الذي أظهر تفانيا كبيرا في الفلاحة حتى تحصل على جائزة أحسن مقسم فلاحي في المشروع ككل، ثم بقي يدافع عن حقه في التشغيل ليكون حاليا أستاذا مترسما في قريته بعد أن تزوج وأصبح لديه صغارا قد يكتبون يوما قصته بتفاصيلها الدقيقة، فما خطه قلمي ليس سوى جزئيات سريعة لقصة أعرف صاحبها معرفة شخصية، وأعرف ما عاناه وما قاساه للوصول لهدفه الذي كان مستحيلا في فترة ما من تحديه، ولكنه تحداه ووصل لهذا الهدف.
بعد هذه القصة ... ما رأي من قاطع الدراسة لأنه رسب؟؟؟؟ | |
|